حديثنا اليوم عن أحوال العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري يوم أن ضعف سلطان المسلمين، وتفرقت كلمتهم، وأثقلتهم خطاياهم، وتنازعوا أمرهم بينهم..
حينها خرجت جحافل المغول المتوحشة تسفك الدماء، وتقتل الأبرياء، وتهتك أعراض النساء.
وتستولي على الممتلكات والضياع دون راحٍ أو حياء، في مشاهد بشعة تكاد تنكرها العقول لولا ثبوتها، ولهولها وشدتها ظنت طوائف من المسلمين بالله الظنون.
وربما خُيِّل لبعضهم أن شجرة الإسلام قد اجتثت من أصولها، وأن بذرة المسلمين قد استؤصلت من جذورها، بل بالغ البعض فظنَّ في تلك الحوادث المؤلمة نهاية العالم، واعتبرها آخرون أشد من فتنة الدجال.
نعم، لقد بقي المؤرخ ابن الأثير-وهو شاهد عيان لبعض أحداثها- عدة سنين مُعرِضًا عن ذكر هذه الحادثة؛ استعظامًا لها، كارهًا لذكرها.
وهو يقول: "فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا أو كنت نسيًّا منسيًّا.
إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا..
فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم-عليه السلام- وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقًا"[1].
"وتالله لا أشك أن من يجيء بعدنا إذا بَعُد العهد، ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن، وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها.
يسر الله للمسلمين والإسلام من يحفظهم ويحوطهم، فلقد دفعوا من العدو إلى عظيم، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه"[2].
هذا الوصف من ابن الأثير وهو بعد لم يشهد الفاجعة العظمى والمصيبة الكبرى لسقوط بغداد ونهاية الخلافة الإسلامية الكبرى على أيدي العباسيين.
ويقول ذلك وهو لم يعلم بتجاوز التتر بلاد العراق إلى بلاد الشام وما حصل فيها من المآسي والآثام.. تلك الأحداث التي يصفها بجلاء، ويشخِّص فيها أحوال الناس، ويصوِّر مشاعرهم ومواقفهم بدقة وخبرة- شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- حين يقول:
"فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده ودأب الأمم وعاداتهم، لاسيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه.
وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن ينقطع وينصرم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار.
وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورًا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدًا..
ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت اللبيب لكثرة الوساوس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان.
وميّز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق أو ضعف إيمان، ورفع بها أقوامًا إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقوامًا إلى المنازل الهاوية، وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى"[3].
هذا جزء من وصف ابن الأثير وابن تيمية-رحمهما الله- لهذه الحادثة الكائنة، وهو يكشف لكم عن استمرار البلوى والامتحان لأهل الإيمان عبر الزمان والمكان، ويكشف من جانب آخر اختلاف مواقف الناس حين الشدائد والمحن، وكيف يثبت الله المؤمنين، ويفضح المنافقين، ويكشف حقد الكافرين، وكيف يرفع بها أقوام، وتحط من خطاياهم، ويزل بها آخرون وتكون فتنة لهم.
ثم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-في بقية وصفه-: "وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرضه... ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح والبر والتقوى.
وبليت فيها السرائر، وظهرت الخبايا، وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه من المال، وذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيل، كما حمد ربه من صدق ما جاء به الآثار النبوية".. إلى أن يقول: "وتحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام..."[4].
فإن قال قائل: وهل وقع في هذه المحنة ما يستوجب هذه الوحشة وذلك الفَرَق والذهول لأهل الإسلام؟ أجبت أن نعم، وإليكم نماذج لما حصل..
- ففي بخارى المسلمة دخل التتر عنوة، وطلب أهلها الأمان، فأظهر لهم جنكيز خان العدل وحسن السيرة، وهو يروم غير ذلك؛ إذ أمر بالتوجه إلى قلعتها الحصينة التي احتمى بها طائفة من العسكر لم يتمكنوا من الهروب مع أصحابهم، وطلب من أهل البلد الخروج معه لمحاصرتها، ومن تخلف عنه قُتل، فكانت تلك بداية الاستخفاف والاستذلال، فخرجوا خوفًا من بطشه، وأمرهم بردم الخندق المحيط بالقلعة، ففعلوا..!
وبلغ من سوء التتر واستهتارهم أن استخدموا كل شيء في ردم هذا الخندق، حتى ألقيت المنابر وربعات القرآن في الخندق! وبعد قتال مرير دخلوا القلعة، وقتلوا جميع من احتمى بها من المسلمين. ولم تقف المأساة عند هذا الحد.
بل عادوا مرة أخرى إلى البلد يقتلون ويأسرون ويفسدون، حتى قال ابن الأثير: "وكان يومًا عظيمًا من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان... ورضي بعض المسلمين بالقتل دون ذلك الفساد، لاسيما أهل العلم والفقه والدين"[5].
- وفي سمرقند نصب التتر كمينًا لأهلها، فوقع في شراكهم سبعون ألفًا من المسلمين قُتلوا في غداة واحدة شهداء[6].
ثم عادوا إلى البقية الباقية من أهلها يقتلون ويأسرون ويفسدون، فهدمت المساجد، وفضت الأبكار، وعذبوا الناس بأنواع العذاب.
- أما في (مرو) فأحصي ما قتلوه في يوم واحد فبلغ-كما نقل ابن كثير- سبعمائة ألف إنسان[7].
- وفي نيسابور ذبح المغول جميع أهلها، وحتى يتأكدوا من هلاكهم جميعًا قطعوا رءوسهم! وعملوا منها ثلاثة أهرامات: هرمًا لرءوس الرجال، وهرمًا لرءوس النساء، وثالثًا لرءوس الأطفال[8]!!
هذه المآسي كلها وأمثالها-دون مأساة بغداد- أنتجت جوًّا من الرعب والضعف والمسكنة، يصف لنا ابن الأثير بعض مظاهره فيقول: "حكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلًا في طريق، فجاءنا فارس من التتر وقال لنا: حتى يكتف بعضنا بعضًا!
فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد، فلِمَ لا نقتله ونهرب؟! فقالوا: نخاف. فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله؛ فلعل الله يخلصنا. فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذت سكينًا وقتلته، وهربنا فنجونا"[9].
ويذكر المؤرخون أن رجلًا من التتر أخذ رجلًا من المسلمين ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: "ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، ففعل، حتى جاء التتري بسيف وقتله به"[10].
قال ابن الأثير: "وبلغني أن امرأة من التتر دخلت دارًا وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلًا، فوضعت السلاح وإذا هي امرأة، فقتلها رجل أخذته أسيرًا"[11].
وليس القصد من ذكر هذه الأحداث المؤلمة التلذذ بذكر قصصها، ولا الاستزادة من معرفة أخبارها، فلمثل هذه الأحداث يذوب القلب من كمد، إن كان في القلب إسلام وإيمان. وإنما القصد الاستفادة من عبرها ودروسها، والوقوف على الأسباب التي أدت إليها، ومعرفة طرق العلاج التي تسلك للخلاص منها.
وإليكم بعض الدروس والعبر لمثل هذه الأحداث والخطوب:
الدرس الأول:
إن سنة الله جارية قديمًا وحديثًا، والذين تروعهم الأحداث المؤلمة في البوسنة والهرسك أو فلسطين، أو يعجبون للحرب العقائدية في أرض الشيشان، أو يستغربون تصفيات المسلمين في بورما وتايلاند، وكشمير والفلبين وغيرها من بلاد المسلمين-ومن حقهم ذلك- لكن عليهم أن يتذكروا أنها حلقة في صراع الحق مع الباطل.
وأنها معركة أطرافها القرآن الحق-حتى وإن ضيَّعه أهله، ولم يلتزموا بكل ما فيه- والتوراة والإنجيل وسواهما من الأديان والنحل الباطلة؛ إذ يُراد القضاء على البقية الباقية من هذا الدين، والسحق لهذه الشعوب المسلمة، التي بدأت تتلمس طريق الخلاص، وتعود للإسلام وتعتز بالدين.
الدرس الثاني:
غربة الدين وضعف المسلمين لا ينبغي بحال أن يقود إلى الإحباط وخور النفوس، ولا ينبغي أن يكون سُلَّمًا لأن يخامر القلب الشكوك، أو أن يظن المسلمون بربهم الظنون السيئة، بل يجب أن يكون مادة للصبر والثبات على دين الله والبذل في سبيله، حتى يأذن الله بالفرج..
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- معلقًا على حديث "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء": "وكثير من الناس إذا رأى المنكر وتغيُّر كثير من أحوال الإسلام فزع وكلّ وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهيّ عن هذا.
بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنبه، فليصبر إن وعد الله حق، وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار"[12].
الدرس الثالث: وكما أن المسلم مأمور بالصبر والثبات على دين الله في كل حال، ولا سيما في المحن، ومنهيّ عن سوء الظن بالله، فهو منهي أيضًا عن التأفف أو الاعتراض على شيء من أقدار الله. وقد حكى ابن كثير في ترجمة الشيخ عفيف الدين يوسف بن البقال قال: "كان صالحًا ورعًا زاهدًا.
حكى عن نفسه قال: كنت بمصر فبلغني ما وقع من القتل الذريع ببغداد في فتنة التتار، فأنكرت في قلبي وقلت: يا رب، كيف هذا وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له؟ فرأيت في المنام رجلًا وفي يده كتاب، فأخذته فقرأته، فإذا فيه هذه الأبيات فيها الإنكار عليَّ:
دع الاعتراض فما الأمر لك *** ولا الحكم في حـركات الفلك
ولا تسـأل الله عـن فعلـه *** فمـن خـاض لجة البحر هلك
إليـه تصير أمــور العباد *** دع الاعتـراض فمـا أجهلك[13]
الدرس الرابع:
أن يفتش المسلمون في أحوالهم، ويصدقوا مع أنفسهم في البحث عن أسباب الذلة والهوان.. وسيجدون أن أعظم الأسباب كامن في ذوات أنفسهم، وأن الله لا يسلط عليهم عدوًّا من خارج أنفسهم إلا إذا هم خالفوا أمره وعصوا رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[الشورى: 30]. ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. ويقول جل ذكره: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
بل لقد أنزل الله-فيما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم- قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
وإذا كان هذا مع أهل الإيمان، فلا تسأل عن غيرهم من أهل الضلالة والفجور والعصيان!! وما ربك بغافل عما يعملون.
الدرس الخامس:
هذه الأحداث المؤلمة على أهل الإسلام قديمًا وحديثًا كما تؤكد سنة الابتلاء وتمييز الصادقين من الكاذبين، فهي تؤكد أيضًا عظمة هذا الدين، وأنه صخرة شماء، غني عنهم، لكنهم هم الفقراء إلى عفو الله ورحمته.
فإذا صلحت أحوالهم واستقامت أمورهم على شريعة الله، فليبشروا بنصر الله تحقيقًا لوعد الله والله لا يخلف الميعاد؛ {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173].
الدرس السادس:
هناك صنفان من الناس لهما أثر كبير في صلاح الناس واستقامتهم، ألا وهم العلماء والأمراء؛ إذ إن العلماء والأمراء لهم أثر كبير في استصلاح أوضاع المسلمين، ومن ثَمَّ تحقيق النصر المؤزر في وقعة عين جالوت على أعداء الدين.
الدرس السابع:
يعدُّ سلاح الدعاء سهمًا نافذًا، وعدَّة ما لها من نفاد، يملكها الفقراء كما يملكها الأغنياء، ويستوي فيها الذكر والأنثى على حد سواء، ولا يعذر بها العامَّة فضلًا عن العلماء. فألحوا على الله بالدعاء بنصرة هذا الدين، والتمكين للمؤمنين، وأظهروا لله الفاقة والتضرع والخشوع، وادعوه دعاء المضطر؛ فهو يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.
[1] ابن الأثير: الكامل 12/358.
[2] الكامل 12/375، 376.
[3] ابن تيمية: الفتاوى الكبرى 28/427، 428.
[4] الفتاوى 28/428.
[5] الكامل 21/365، 367.
[6] الكامل 12/38.
[7] ابن كثير: البداية والنهاية 13/167.
[8] إسماعيل الخالدي: العالم الإسلامي في المشرق الإسلامي والغزو المغولي، ص187.
[9] الكامل 12/501.
[10] الكامل 12/501.
[11] الكامل 12/378.
[12] الفتاوى 18/295.
[13] البداية والنهاية 13/241.
الكاتب: د. سليمان العودة
المصدر: شبكة نور الإسلام، بتصرف يسير